Loading

يشيب ابن آدم و تشب معه خصلتان الحرص و طول الأمل

محمد جواد الدمستاني

في الحِرص و طول الأمل و زيادتهما مع زيادة العمر في عموم النّاس روي في الخصال عن النبي صلى الله عليه و آله « يَهْرَمُ اِبْنُ آدَمَ وَ يَشِبُّ مِنْهُ اِثْنَانِ اَلْحِرْصُ عَلَى اَلْمَالِ، وَ اَلْحِرْصُ عَلَى اَلْعُمُرِ». الخصال،ج1ص73

و كذلك في الخبر عن النبي صلى الله عليه و آله «يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ». بحار الأنوار، ج ٧٠ ص ٢٢

و النّاس يختلفون شدة و ضعفا في صفتي و حالتي الحرص و طول الأمل، فمنهم من هو حريص جدا لأبعد الحدود، و منهم ما هو أضعف حرصا، و منهم من هو قنوع.

و منهم من لديه طول أمل و يودّ أن يعمّر ألف سنة، هؤلاء عادة المرفهين و المترفين، ومنهم من يأمل البقاء إلى اقصى مدة مقارنة بأعمار أهل زمانه، و منهم أقل من ذلك، كما أنّ منهم قصير الأمل.

و لكن أكثر النّاس في الأزمنة و العصور المختلفة يغلبهم طول الأمل، و يأملون أن يعيشوا أطول مدة، و قليل منهم من لديه قصر الأمل، و العجيب أنّه كلما ازداد الإنسان عمرا و سنا ازداد معه طول الأمل، و موقع العجب و الاندهاش أن الإنسان كلما ازداد عمره ازدادت خبرته، و اقترب من الموت أجله، و ضعفت قواه، و أدرك ما لا يدركه الشباب و زاد تفكيره في الموت و ما بعد الموت، و لكنه على مع ذلك يزداد حرصا و طول أمل «يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ». بحار الأنوار، ج ٧٠ ص ٢٢

و ذكر أنّ هذه الرواية قيلت لهارون العباسي، و ابتداء كأنّها تلميع للطاغية هارون و تبييض صورته، و هارون هذا نفسه عبرة لمن يعتبر، فقد وُلد في سنة 149 هـ و توفى في 193 هـ، و سمّي خليفة سنة 170 هـ، فحكم بين سنة 170هـ إلى سنة 193هـ ، أي في عمر الغرور و الشباب، و قام بالمعاصي و الذنوب و استمتع بالدنيا و حكم بقعة كبيرة من الأرض كانت تحت سيطرته و سطوته، ثم أخذته سهام الموت فأردته صريعا، فهو عبرة لمن أراد الاعتبار.

يذكر أنّ هذا الطاغوت نّ هارون رغب يوما في رؤية شخص أدرك النبي‌ صلى الله عليه و آله وسمع‌ حديثه، و حيتما بحثوا وجدوا عجوزا هرِما متداعٍ في‌ غاية‌ الضعف‌، كأنّه عظام تتنفس فوضعوه‌ في‌ زنبيل، و جيء به إلى هارون بعناية، قال هارون: رأيت‌ النبيّ (ص)؟ قال‌: بلي‌. فقال‌ هارون‌: متي‌ رأيته‌؟ قال‌ العجوز: أخذ أبي‌ بيدي‌ يوماً في‌ طفولتي‌ واصطحبني إلي‌ رسول‌ الله‌ صلى الله عليه و آله، ثم‌ لم‌ أدرك‌ محضره‌ حتّي‌ رحل‌ عن‌ الدنيا، قال‌ هارون‌: أفسمعتَ من‌ رسول‌ الله‌ شيئاً‌؟ أجاب‌: بلي‌! سمعتُ من‌ رسول‌ الله‌ أنّه‌ قال «يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ»، أمر فأعطوا العجوز جائزةً له‌، ثم‌ أُخرج‌ عنه‌.

وحين‌ أرادوا اخراج‌ الهرِم من‌ البلاط‌ رفع‌ صوته‌ بضعف و قال: ردّوني‌، و حينما أعادوا الزنبيل‌ و فيه‌ العجوز الي هارون‌، قال له: ما الأمر؟ قال‌ العجوز: لديّ سؤال‌. قال‌ هارون‌: قُلْ. فقال‌: أعطاؤك‌ الذي‌ تفضّلتَ به‌ علي اليوم‌ لهذه‌ السنة‌ فقط‌ أم‌ هو عطاء يتجدّد كلّ عام‌؟ قال‌ هارون: صَدَقَ رَسُولُ اللَهِ صلى الله عليه و آله: «يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَ تَشُبُّ مَعَهُ خِصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَ طُولُ الاْمَلِ».

هذا الشيخ الهرِم الذي بالكاد يسمع و يرى و يجمع قواه و في هذا السن المتقدم جدا يسأل‌ إن كان هذا العطاء مختصّ بهذه‌ السنة‌ أم‌ انّه‌ عطاء لكلّ سنة‌، حرص على الجائزة، و طول أمل بالبقاء للسنة القادمة، فهذا الراوي عن رسول الله صلى الله عليه و آله مصداق واضح للرواية في الحرص و طول الأمل، و مثله لا يستفيد من الجائزة التي هو حريص عليها، و لا يفيده بقاء العمر و طول الأمل، و لكنه الحرص على المال و الحرص على العمر.

أما الأفضل للإنسان فهو أن يعتبر هذه الدّنيا كساعة امتحان فيجدّ فيها و يجتهد و يسعى للنجاح و الصلاح حالا و حاضرا، ثم لا يهمه إن طال به العمر أو قصر، فإن طال عمره فهو في طاعة الله، و إن قصر عمره فهو في طاعته، و دائما هو في لطف الله و رحمته.

و الحرص حالة نفسية تبعث الإنسان على تجميع الأشياء من أموال و متاع، ما يحتاج و ما لا يحتاج، وهي صفة رديئة، و تؤدي إلى مساوئ أخلاقية و رذائل.

و الحريص يجره حرصه فلا يقف إلى حد ينتهي فيه بل يغوص في الدّنيا حتى يغرق، و يُروى عن رسول الله صلى الله عليه و آله «لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثاً، وَ لاَ يَمْلَأُ جَوْفَ اِبْنِ آدَمَ إِلاَّ اَلتُّرَابُ، وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ». روضة الواعظین،ج2ص429، مجموعة ورّام،ج1ص163.

و مثله عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنَّ فِيمَا نَزَلَ بِهِ اَلْوَحْيُ مِنَ اَلسَّمَاءِ لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ يَسِيلاَنِ ذَهَباً وَ فِضَّةً لاَبْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثاً يَا اِبْنَ آدَمَ إِنَّمَا بَطْنُكَ بَحْرٌ مِنَ اَلْبُحُورِ وَ وَادٍ مِنَ اَلْأَوْدِيَةِ لاَ يَمْلَأُهُ شَيْءٌ إِلاَّ اَلتُّرَابُ». من لا یحضره الفقیه،ج4ص418

و عن رسول الله صلى الله عليه و آله: «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وطَالِبُ عِلْمٍ» الكافي،ج1ص94، ومثله في نهج البلاغة «مَنهُومانِ لا يَشْبَعانِ: طالِبُ عِلمٍ، وَطالِبُ دُنْياً». نهج البلاغة – حكمة 457

و في تهذيب الأحكام، عن سليم بن قيس الهلالي: « قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: «مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ مَنْهُومُ دُنْيَا وَ مَنْهُومُ عِلْمٍ، فَمَنِ اِقْتَصَرَ مِنَ اَلدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ سَلِمَ، وَ مَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ وَ يُرَاجِعَ، وَ مَنْ أَخَذَ اَلْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَ عَمِلَ بِهِ نَجَا، وَ مَنْ أَرَادَ بِهِ اَلدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّهُ». تهذيب الأحكام،ج6ص328

و الحرص و طول الأمل يؤديان مع الكِبْر إلى الفساد كما عن الإمام الصادق عليه السلام في رواية طويلة قال«..وَ أَعْظَمُ اَلْفَسَادِ أَنْ يَرْضَى اَلْعَبْدُ بِالْغَفْلَةِ عَنِ اَللَّهِ وَ هَذَا اَلْفَسَادُ يَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ اَلْأَمَلِ وَ اَلْحِرْصِ وَ اَلْكِبْرِ كَمَا أَخْبَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِي قِصَّةِ قَارُونَ فِي قَوْلِهِ: وَ لاٰ تَبْغِ اَلْفَسٰادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ». بحار الأنوار،ج70ص395 عن مصباح الشريعة.

و يقابل الحرص القناعة أي الرضا و القبول، و هي ملكة للنفس توجب الاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة من المال و المتاع، دون سعي في طلب الزائد عنه، وهي صفة فاضلة، و تؤدي إلى اكتساب فضائل.

و في القناعة و الحرص روي عدد من الروايات عنهم عليهم السلام، و عن أمير المؤمنين عليه السلام «ابْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا مَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ أَيْسَرَ مَا فِيهَا يَكْفِيكَ، وإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ مَا لَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِيهَا لَا يَكْفِيكَ». الكافي،ج2ص138.

و الشيخ النراقي في كتاب الأخلاق جامع السعادات ذكر فصلا (ج2 ص80) في علاج الحرص و تحصيل القناعة، و منه: أن يتذكر أولا ما في القناعة من المدح والشرافة، وعز النفس وفضيلة الحرية، وما في الحرص من الذم والمهانة، وتحمل الذلة ومتابعة الشهوة. و أن يتذكر ما في جمع المال من الآفات الدنيوية والعقوبات الأخروية، ويكثر التأمل فيما مضى عليه عظماء الخلق و أعز أصنافهم الأنبياء والأوصياء ومن سار بسيرتهم، من صبرهم على القليل، وقناعتهم باليسير، وفيما يجري عليه الكفار و أراذل الناس وأغنيائهم وأمثالهم، من التنعم وجمع المال الكثير، و الاقتداء بأعز الخلائق أحسن من الاقتداء بأراذلهم.

وفي علاج طول الأمل يذكر النراقي في جامع السعادات (ج ٣، ص ٢٧) أنّ منشأه هو الجهل وحب الدنيا، و بالتالي علاجه يبتني على رفع الجهل بالعلم، و رفع حبّ الدّنيا بالزهد فيها.

في الجهل لابد للإنسان أن يعلم أنّ الموت أقرب إليه من كل شيء، وانه لا بد ان تحمل جنازته ويدفن في قبره، و أما حب الدنيا فينبغي ان يدفع من القلب بالتأمل في حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة، و أن يتذكر ما ورد في ذم طول الأمل و مدح قصر الأمل.

و يقابل طول الأمل قصر الأمل و في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و آله «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاء،ِ وَ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ». مکارم الأخلاق،ج1ص458، الأمالي (للطوسی) ،ج1ص525

و روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «وَ اَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إِلاَّ ظَنَنْتُ أَنَّ شُفْرَيَّ لاَ يَلْتَقِيَانِ حَتَّى يَقْبِضَ اَللَّهُ رُوحِي، وَ لاَ رَفَعْتُ طَرْفِي وَ ظَنَنْتُ أَنِّي خَافِضُهُ حَتَّى أُقْبَضَ، وَ لاَ لَقَمْتُ لُقْمَةً إِلاَّ ظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أُسِيغُهَا لِحَصْرَتِهَا مِنَ اَلْمَوْتِ». الأمالي (للطوسی) ،ج1ص525، ج1ص381، مشکاة الأنوار،ج1ص87، بحار الأنوار،ج74ص73، ج74ص181وسائل الشيعة ،ج1ص114

و كذلك في الرواية «اِطَّلَعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه و آله ذَاتَ عَشِيَّةٍ إِلَى اَلنَّاسِ، فَقَالَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَ مَا تَسْتَحْيُونَ مِنَ اَللَّهِ! قَالُوا: وَ مَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ! قَالَ: تَجْمَعُونَ مَا لاَ تَأْكُلُونَ، وَ تَأْمَلُونَ مَا لاَ تُدْرِكُونَ، وَ تَبْنُونَ مَا لاَ تَسْكُنُونَ». مجموعه ورام، ص499، كنز العمال،ج ١٦ص ١٣٥.

اللهم أبعد عنا الحِرص و طول الأمل، وارزقنا القناعة و قصر الأمل و البصيرة، و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *