فلما رأى الله صدقنا أنزل علينا النصر
(علاقة النصر بالصدق و الصبر و الجوانب المعنوية)
محمد جواد الدمستاني
في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام يصف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و ذلك يوم صفين حين نادوا بالصلح، قال عليه السلام فيما قال: «فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ» نهج البلاغة – خطبة 56
جولات الصراع بين الحق و الباطل لا تنتهي في هذا العالم منذ خلق الله آدم عليه السلام، و كمثال أورده الإمام بما يناسب المقام و المخاطبين و هم جنود في صفين و يوصل لهم المعنى و الدرس ذكر الإمام عليه السلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و صفات من حروبهم، و أنّها لم تكن انتصارات عسكرية دائمة فقد كانت معركة أحد حيث لم يسمع أفراد الجيش الإسلامي كلام رسول الله و خالفوه انهزم جيش المسلمين و استشهد عدد من الصحابة و أبرزهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلی الله عليه وآله كما استشهد مُصعب بن عُمير، و لم يبق مع رسول الله إلا أفراد قليلة سُميّت في كتب التاريخ بينها أمير المؤمنين عليه السلام.
و كذلك غزوة مؤتة أو سرية مؤتة التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة بين المسلمين والروم، واشتدّ القتال بين الجيشين، و استشهد القادة فيها جعفر بن أبي طالب، و زيد بن حارثة الكلبي، و عبد اللّه بن رواحة، وضاق الأمر علی المسلمين فانسحبوا منهزمين.
و في نفس المعارك التي خاضها المسلمون في أيام رسول الله كانت فيها صولات و جولات، و انتصارات و انكسارات، فإنّ معركة أحد كانت بدايتها نصر للمسلمين ثم كانت هزيمة، و غزوة حُنين في السنة الثامنة للهجرة فقد مالت كفّة الحرب في بدايتها للمشركين و لكن النصر النهائي كان حليفا للمسلمين.
و المعنى في الكلام أنّ أصحاب الحق قد يواجهون انكسارا أو ضعفا و لكنهم لا ينبغي أن يتراجعوا بسببه عن نصرة الحق فإنّ المعركة تداول و نوبات، فمرة نصر و فوز و أخرى انكسار و هزيمة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام «فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا»، فليس انتصار أهل الحق على أهل الباطل دائم في كل الحروب و الصراعات، و لكن النصر وعد إلهي سيتحقق إن شاء الله، قال تعالى « إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». سورة غافر:51. و « وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ». سورة الروم:47.
و هذا يعني – و كما هو في التاريخ في العصور الماضية و في الحاضر و الواقع المعاش – ظهور أو توقع ظهور كثير من الصعوبات و العوائق و المشاكل المتوقعة او المفاجئة، و في صفين برزت تلك المشاكل و لكنها لا ينبغي أن ينكسر بسببها المسلمون و أهل الحق.
و هذا يعني أيضا إنّ مسؤولية المقاتل و المسلم عامة هو أداء تكليفه الشرعي و أمّا النصر فهو من عند الله، و قد يستشهد و لم يأت النصر بعد.
و أنّ أحد أسباب النصر هو الصدق، «فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ»، أنزل علينا النصر بصدقنا و صبرنا و إخلاصنا و ثباتنا، و أنزل على عدوّنا الهزيمة و الذل و الهوان.
و إطلاق الصدق يشمل كل جوانبه من صدق القيادة إلى الجندي العادي، و صدق القضية، و صدق الجهات المتعددة في جبهة الحق و التي سيتحقق لها النصر أو تشارك فيه، الصدق في المواطن كلها.
فالصدق من شعب و فروع الجهاد كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام « والْجِهَادُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، والصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ، و شَنَآنِ الْفَاسِقِينَ » نهج البلاغة، حكمة 31.
فالصدق ركيزة رئيسية و قيمة أساسية للمقاتل في الحرب، قال تعالى: « مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ..» سورة الأحزاب:24،23، رجال صدقوا .. ليجزي الله الصادقين بصدقهم.
و الركيزة الرئيسية الأساسية العظمى هي الإيمان، قال تعالى: « فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ». سورة الروم:47، و كان حقّا علينا نصر المؤمنين.
و في هذا الكلام «فلمّا رأى الله صدقنا..» منع من أن تكون موازين القوى المادية و العسكرية وحدها – مع ضرورتها و أهميتها – هي سبب النصر فإنّ الأسباب المعنوية مرجّحات كبرى للنصر، فالصبر كمرجّح معنوي يفوق العدد كسبب مادي، قال تعالى: «إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا» سورة الأنفال:65، و «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». سورة البقرة:249، «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».آل عمران:120.
كما وردت طائفة من الروايات تربط بين النصر و الصبر، و في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله «فَإِنَّ فِي اَلصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً، وَ إِنَّ اَلنَّصْرَ مَعَ اَلصَّبْرِ».الأمالي (للطوسی)،ج1ص525، و «بِالصَّبْرِ يُتَوَقَّعُ اَلْفَرَجُ» بحار الأنوار،ج68ص96.
و عن أمير المؤمنين (ع) «اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ». نهج البلاغة، خطبة 26، «لا يَعدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ، وإن طالَ بهِ الزمانُ». نهج البلاغة، حكمة 153، و «الصَّبرُ كَفِيلٌ بالظَّفَرِ». غرر الحکم،ص45، ميزان الحكمة، ج ٦،ص١٥٢.
فيجب تهيئة الأسباب المعنوية و المادية و العسكرية، مطلق الإعداد و الاستعداد، «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ». سورة الأنفال:36
و لقد كان انتصار و انتشار الإسلام بالإيمان و الإخلاص و الصدق و الصبر و الثبات، «حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ» كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في نفس الخطبة. نهج البلاغة – خطبة 56
و الخطبة كاملة كما في نهج البلاغة :
و من كلام له (عليه السلام) يصف أصحاب رسول الله و ذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح :
وَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً وَ مُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَ جِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً .
أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ، و كَتَبَ لنَا النَصْر، و الحمدُ لله ربّ العالمين، و صلِّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.