صفات المؤمن العارف
«المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شئ صدرا، وأذل شئ نفسا، ..».
نهج البلاغة – حكمة 333
محمد جواد الدمستاني
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عدة صفات من صفات المؤمن، قال الشريف الرضي وَ قَالَ (عليه السلام): «فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُؤْمِنُ: بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ، أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً، وَ أَذَلُّ شَيْءٍ نَفْسا،ً يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ، وَ يَشْنَأُ السُّمْعَةَ، طَوِيلٌ غَمُّهُ، بَعِيدٌ هَمُّهُ، كَثِيرٌ صَمْتُهُ، مَشْغُولٌ وَقْتُهُ، شَكُورٌ، صَبُورٌ، مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ، ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ، سَهْلُ الْخَلِيقَةِ، لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ، نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ، وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ». نهج البلاغة، حكمة 333.
وهذه صفات المؤمن العارف أو المؤمنين العارفين، أو المؤمن الكامل الذي وصل على درجات عالية في الإيمان، قال عليه السلام:
«الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ»
البِشْر هو البَشاشة و طلاقة الوجه و إظهار السرور، دون تجّهم و تقطّب، فالمؤمن مبتسم و لديه حسن ملاقاة مع الآخرين، و هذا من حسن العشرة، كما هو إظهار التحبب إلى النّاس و تواضع، فالمتكبر عادة لا يظهر ابتسامته و لا انبساطه للنّاس دائما و لا لكل النّاس.
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، فَالْقَوْهُمْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْه، وحُسْنِ الْبِشْرِ». الکافي،ج2ص103
وفي المناقب في ذكر صفات أمير المؤمنين عليه السلام: «وَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِشْرُهُ دَائِمٌ وَثَغْرُهُ بَاسِمٌ،..». المناقب،ج2ص115
و عن الإمام الباقر عليه السلام: قَالَ «أَتَى رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَوْصِنِي فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ اِلْقَ أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ». الکافي،ج2ص103
«وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ»
يحتفظ بحزنه في قلبه و لنفسه، و لا يظهره للناس، أو يقطَّب في وجوههم أو يتجّهم، فلا يشرك الناس في همومه و أحزانه، فالمؤمن «بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ» و المعنى أنّه يظهر البِشر و السرور في لقاءاته مع الناس مع أنّه حزين القلب، حفاظا على مشاعرهم، و أنفسهم من التأثر، أما إظهار البشر و السرور فقط مع عدم وجود الحزن فهو عند كثير من النّاس، و النّاس عامة يظهر على وجوههم الحزن و الألم.
«أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً»
سَعَة الصَّدر و رحابة الصدر كناية عن التّسامح و الحِلم، فالمؤمن يعفو عمّن ظلمه، و يسامح من أذّاه، و لا يضيق صدره بقول أو فعل ضده أو حركة، و لديه قدرة على الصبر، يتحمل الأزمات و الأخطاء و الأخطار، و في نهج البلاغة «آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ»، نهج البلاغة، حكمة 176.
«وَ أَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً»
ليس متكبرا و لا متعاليا، بينه و بين اللّه ذليل النفس، و بينه و بين الناس متواضع، لا يترفع على الآخرين و لا يرى نفسه فوقهم أو أفضل منهم.
«يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ»
الرِفعة: ارتفاع القدر و المنزلة، و المؤمن العارف لا يحب الترفع على الناس و الأبّهة و العلوّ، قال تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، سورة القصص:83.
«وَ يَشْنَأُ السُّمْعَةَ»
يَشْنَأُ: يكرِه و يبغض، و السُّمْعَةَ : الصيت و الذكر، يقال فعله رئاء و سُمعه أي فعله ليراه الناس و يسمعوه، و المؤمن العارف يبغض و يكره السُّمعَة و الصيت و التمجيد، و يتجنب ذلك من النّاس، و لعل ذلك مما يشوبه من رياء يخالف الإخلاص للهّ، و هو إنّما يعمل ما يعمله بدافع التقرب على الله سبحانه و تعالى لا يريد سمعة و لا ذكرا وراء ذلك من النّاس، و في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و آله نهي عن المدح، قال (ص): «اُحْثُوا فِي وُجُوهِ اَلْمَدَّاحِينَ اَلتُّرَابَ»، من لا یحضره الفقیه، ج4، ص3.
«طَوِيلٌ غَمُّهُ»
غمّ و الجمع غموم و هو الكرب و الحزن، و طول غمّه لعله لنظره إلى الموت وما بعده، و مصيره في الآخرة، أو طويل غمّه خوفا من غضب اللَّه تعالى.
و يكمن تصور غمّ الإنسان العارف أيضا من أفعال النّاس و ما يعملونه من رذائل، و الصراعات و التسلط و كل ما فيه ظلم و انتهاكات و الحروب دون تحرّج أو تقوى.
«بَعِيدٌ هَمُّهُ»
هَمّ و الجمع هموم هو الحزن و الغمّ، و ما يشغل بال الإنسان و يؤرق فكره، و بعد الهمّ لعله لنظره إلى السعادة الأخروية دون دنايا الدّنيا، و طلب المنزلة و المكانة عند الله سبحانه لا عند النّاس، و في الحكمة عن أمير المؤمنين عليه السلام عن متاع الدنيا، قال: «وَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشْجَاناً لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ هَمٌّ يَشْغَلُهُ وَ غَمٌّ يَحْزُنُهُ»، نهج البلاغة، حكمة367.
«كَثِيرٌ صَمْتُهُ»
أي سكوته، صامت ساكت لما في السكوت من حكمة، و لكمال عقله، قال عليه السلام «إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ»، نهج البلاغة، حكمة 71، فلا يتكلم إلا في مواضعه و لا ينطق إلا بحكمة و صلاح، يبتعد عن فضول الكلام، و يفكر فيما عليه من واجبات و القيام بها على أكمل وجه.
«مَشْغُولٌ وَقْتُهُ»
فلا وقت لديه فارغ للتلهي، مشغول بما فيه من خير الدّنيا و الآخرة، و أعماله و طاعاته و عباداته لله سبحانه، و فيما عليه من واجبات لله و للنّاس، و لأهله و أولاده، و خدمة النّاس و قضاء حوائجهم.
«شَكُورٌ»
أي كثير الشكر للَّه لنعمه و عطاياه، و في رواية قريبة من هذه الرواية في الكافي في صفات المؤمن عن أمير المؤمنينن قال عليه السلام: «وَقُورٌ، ذَكُورٌ، صَبُورٌ، شَكُورٌ»، الكافي، ج٢،ص226
«صَبُورٌ»
صبور في مكاره الدنيا ومحنها و مصاعبها، و صبور على بلاء اللَّه.
و روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانُ خِصَالٍ: وَقُورٌ عِنْدَ اَلْهَزَاهِزِ، صَبُورٌ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ، شَكُورٌ عِنْدَ اَلرَّخَاءِ، قَانِعٌ بِمَا رَزَقَهُ اَللَّهُ، لاَ يَظْلِمُ اَلْأَعْدَاءَ، وَ لاَ يَتَحَامَلُ لِلْأَصْدِقَاءِ، بَدَنُهُ مِنْهُ فِي تَعَبٍ وَ اَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، إِنَّ اَلْعِلْمَ خَلِيلُ اَلْمُؤْمِنِ، وَ اَلْحِلْمَ وَزِيرُهُ، وَ اَلصَّبْرَ أَمِيرُ جُنُودِهِ، وَ اَلرِّفْقَ أَخُوهُ، وَ اَللِّينَ وَالِدُهُ»، الکافي،ج2،ص23.
«مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ»
مغمور من غمره الماء إذا غطاه، فهو غارق في فكرته لما ينبغي عليه فعله لنجاة نفسه و النّاس، و فيما هو مسؤول عنه أمام الله و النّاس.
«ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ»
ضنين: بخيل، و الخُلَّةُ (بالضم) الصداقةُ و المحبَّة، و الخَلَّة (بالفتح) الحاجة و الفقر.
ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ (بالفتح) أي بخيل بحاجته، فلا يظهر فقره للناس. قال تعالى: «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»، سورة البقرة:273.
و ضَنِينٌ بِخُلَّتِهِ (بالضم) بمعنى أنّه حذر في صداقاته فلا يسرع إلى صداقة أيا كان، و إنّما يختار الأخلاء و الأصدقاء الصالحين.
و في الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله: «اَلْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، الأمالي (للطوسی)،ص518، و في الكافي «الْمَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ»، الكافي،ج4ص122
«سَهْلُ الْخَلِيقَةِ»
خَليقة و الجمع خلائق و خَليق بمعنى الطبيعة، و المعنى طبيعته سهلة، سلس، سمح، لا خشونة أو قساوة لديه في تعامله مع الناس، بل لديه حسن في المعاملة و الخلق.
«لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ»
العَرِيكة هي الطبيعة و النفس، و لين العريكة أي سَلِس الخُلُق و الانقياد و المعنى تعبير عن تسامحه و تساهله أو تراضيه، أو أنّه شخص لا عناد فيه، و في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليه السلام لعبد الله بن عباس لما أرسله للمحاورة قبل نشوب حرب الجمل: «لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً»، نهج البلاغة، باب الخطبن31.
«نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ».
نفس المؤمن العارف أصلب و أشد من الحجر الصلب، كناية عن شجاعته و قوّته في الدين، و جاءت كلمة الحجر الصّلد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام حين جاءه نعي مالك الأشتر، قال عليه السلام: «ولَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً»، نهج البلاغة، حكمة 443.
و في خطبة صفات المتقين قال عليه السلام: «فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَ حَزْماً فِي لِينٍ، وَ إِيمَاناً فِي يَقِين..»، نهج البلاغة، خطبة 193.
«وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ»، كناية عن خشوعه للَّه و تواضعه للنّاس.
و في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام رواية قريبة من رواية نهج البلاغة ذكر صفات المؤمن، و مقدمتها و مناسبتها قريبة مناسبة خطبة صفات المتقين، و الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «قَالَ قَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَه هَمَّامٌ وكَانَ عَابِداً نَاسِكاً مُجْتَهِداً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا صِفَةَ الْمُؤْمِنِ كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَيْه فَقَالَ يَا هَمَّامُ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْكَيِّسُ الْفَطِنُ بِشْرُه فِي وَجْهِه وحُزْنُه فِي قَلْبِه، أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً، و أَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً، زَاجِرٌ عَنْ كُلِّ فَانٍ، حَاضٌّ عَلَى كُلِّ حَسَنٍ، لَا حَقُودٌ ولَا حَسُودٌ، ولَا وَثَّابٌ ولَا سَبَّابٌ، ولَا عَيَّابٌ ولَا مُغْتَابٌ، يَكْرَه الرِّفْعَةَ ويَشْنَأُ السُّمْعَةَ، طَوِيلُ الْغَمِّ، بَعِيدُ الْهَمِّ ،كَثِيرُ الصَّمْتِ، وَقُورٌ ذَكُورٌ صَبُورٌ شَكُورٌ، مَغْمُومٌ بِفِكْرِه، مَسْرُورٌ بِفَقْرِه، سَهْلُ الْخَلِيقَةِ، لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ، ..»، الكافي،ج2ص227.
و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.