طاعة الإمام و تحقيق النصر
لا رَأيَ لِمَنْ لا يُطاعُ
نهج البلاغة – خطبة 27
محمد جواد الدمستاني
خطب أمير المؤمنين عليه السلام حينما انتهت إليه أنّ خيلا لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملا له و هو حسان بن حسان فخرج مغضبا حتى أتى النخيلة و أتبعه الناس فرقى رباوة من الأرض و خطب خطبة يستنهض فيها النّاس، و يذكر فضل الجهاد، و يذكر علمه بالحرب، و يلقي عليهم التبعة لعدم طاعته.
و أولها في الجهاد فقال عليه السلام «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه،ِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ، وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ» و آخرها « لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ».
و الكلام حول الجملة الأخيرة و هي قوله عليه السلام «لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ»، و المعنى ليس نفي الرأي تماما لأنّه صدر و يصدر و لكنه نفي تنفيد الرأي و طاعة صاحبه، فصاحب الرأي الذي لا يُطاع و لا يتّبع رأيه كأنّه لا رأي له ابتداءً، أو كأنّه فاقد للرأي أساسا، و هو غير فاقد حقيقة، و هنا لم يتحقق تنفيد و تطبيق أمر أمير المؤمنين عليه السلام، و عدم طاعته حين أمرهم بجهاد العدوّ معاوية ابن أبي سفيان و عصابته.
و التقدير لا رأي مُطَبَق، أو لا رأي معمول به لمن لا يُطاع ، فالمنفي عدم العمل بالرأي فلا قيمة للرأي دون العمل به، و مثله «لا صلاة لمن جاره المسجد» بمعنى لا صلاة كاملة لجار المسجد الذي يصلي في بيته، فالمنفيّ فيها الكمال، كمال الصلاة، و ليس المنفي فيها الصلاة أساسا، و لا يحكم على الصلاة بالبطلان إذا صلَّاها جار المسجد خارج المسجد.
و الكلام يشتمل على الحسرة و المرارة من تخاذل الأمة من القيام بواجبها من طاعة و ليّها، قال عليه السلام: «لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ» فقد حارب منذ أن كان عمره أقل من العشرين و لم يزل يحارب وهو فوق الستين، و ذو خبرة في القتال، فهو أعلم الناس بها و بمواقعها، و بصغيرها و كبيرها، و بأبعادها و جهاتها، و لكنهم لم يطيعوه «وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ».
و أمّا عدم الطاعة فقد ظهر في صفين حيث أخبرهم عليه السلام حين رفعت المصاحف أنّ هذا الأمر حيلة و مكيدة فأبوا إلا قبول الخديعة و أصرّوا على وقف القتال، ثم اختاروا للتحكيم أبو موسى الأشعري فاختار ابن عباس و إلا فمالك الأشتر فرفضوا أمره، و حينما شن معاوية حرب الغارات على أطراف الدولة الإسلامية أمرهم بالنهوض فتقاعسوا و لم يطيعوا، فكأنّه عليه السلام لم يأمر لأنّه لم يُطاع في أمره و أوامره.
و قريب من هذا المثل في نهج البلاغة أيضا، قال عليه السلام «لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ»، نهج البلاغة، خطبة 35، و قاله عليه السلام بعد التحكيم و ما بلغه من أمر الحكمين و فيها «وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْر،ٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ». و كان من حكمه عليه السلام أيضا «لا عز إلا بالطاعة»، عيون الحكم و المواعظ، ص٥٣٨.
وهذا الابتلاء بعدم الطاعة و الانقياد يتكرر في الأعصار و الأمصار، و لم تحصل للأنبياء عليه السلام الطَّاعة الكاملة من أممهم، و هكذا أوصياؤهم عليهم السلام، مع ما في الطَّاعة من نجاتهم و ما في الخلاف من هلاكهم. و هذه من ابتلاءات الدّنيا و الأمم، و لو أطاع النّاس و الأمم الأنبياء و الأوصياء لتغيرت أحوال الدّنيا، و لسار النّاس و التاريخ بمسير مختلف عمّا كان و يكون، و لازدهرت الأمم و تقدمت الحضارات، و توسعت تطبيقات القيم الأخلاقية و زادت الخيرات و الأرزاق.
و هذا أمير المؤمنين و سيد الوصيين و إمام المتقين و يعسوب الدين الإمام المعصوم و الموصى له و التأكيد على اتّباعه و عترته عليهم السلام من خاتم الأنبياء رسول الله صلوات الله عليه في كثير من المواطن، و على خلافته، و ولايته ، و منزلته و عظمته و أهميته، كحديث الغدير المتواتر و الذي انتشر في الآفاق بعد رجوع الحجيج إلى أوطانهم، «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ اُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَ اُخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ»، بحار الأنوار، ج37، ص178، و الأحاديث التي سمعها المسلمون كـحديث الثقلين: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَللَّهِ، وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي ، لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْض»، شرح الأخبار،ج2ص479.
و «عَلِيٌّ مَعَ اَلْحَقِّ وَ اَلْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»، بحار الأنوار، ج38،ص39، و حديث المنزلة و غيرها من الأحاديث الكثيرة، و مع هذا لم يطيعه أعداد منهم.
و مع رؤية الأمة لعظمته و بطولاته و شجاعته في الحروب التي خاضها مع رسول الله (ص)، و حمله لواء رسول الله في المشاهد، و قيادته فيها، في بدر و أحد و الخندق و خيبر و غيرها من المشاهد و الحروب.
و مع قرب عهد المسلمين و معاصرة كثير منهم لرسول الله (ص) حيث سمعوا منه و صحبوه، و لا زالوا معاصرين لأمير المؤمنين و يتناقلون الأحاديث و يرون البطولات.
و مع رؤيتهم لأخلاقه عليه السلام و سلوكه و سماعهم لخطبه و أدعيته و وصاياه و كتبه، و خطب الجمعة، و مواقفه العظيمة في كل الاتجاهات، و رؤيتهم و سماعهم منه في طريقه إلى صفين و رجوعه منها، و في الحرب و ما قبلها و بعدها، و نبله و عظمته في المواقف و منها إعطاء أعداءه جيش معاوية الماء بعد السيطرة عليه و بعد أن حرمه سابقا جيش معاوية عنه، و كثير من المشاهدات و الأخلاقيات العظيمة له عليه السلام، و مع ذلك لم يطيعوه في صفين و التحكيم و الجدّ في الحرب بعدها.
نعم هناك من كان مع أمير المؤمنين (ع) و قاتل بقوة، منهم من استشهد في حياته و منهم بعده، و منهم من انتظر، و لم يغيروا و لم يبدلوا الولاء و ثبتوا على الولاية لأمير المؤمنين و لمحمد و ىل محمد (ص).
وهذه المخالفه الصريحه للإمام عليه السلام و لمن قبله من الأنبياء عليهم السلام و الأوصياء عليهم السلام تعتبر نكسة للأمم و بسبب هذه المخالفات و عدم الطاعة للأنبياء و الأوصياء انحدرت الأمم إلى مستويات متدنية و إلى أسفل سلّم درجاتها في كثير من منعطفاتها.
إنّ هذه المخالفات و عدم الطاعة هي التي سببت هزيمة يوم أحد، فإنّ حرب أحد كان النبي صلى الله عليه و آله قد أوصى الرمات بالوقوف على الجبل دون نزولهم و أكّد عليهم بالثبات مطلقا و عدم ترك مواقعهم، و مع ذلك خالفوا رسول الله صلى الله عليه و آله و تركوا مواقعهم فكانت نتيجة الحرب هزيمة جيش المسلمين و فرّ غالبية الجيش من ميدان و ساحة القتال تاركين رسول الله (ص) مع عدد قليل من الثابتين الراسخين و منهم الإمام علي عليه السلام.
فالدرس الذي يجب الوقوف عنده و لكل المجتمعات و الأمم هو سماع و طاعة القائد و مثاله الأعظم الأنبياء و أوصيائهم، و الانقياد لهم حتى تصل الأمة إلى النصر و السعادة.
اللهم عجّل فرج مولانا صاحب العصر و الزمان، و انْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ، وَانْصُرْهُ نَصْراً عَزِيزاً، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسِيراً.