رحلتي إلى بولندا – الحلقة الأولى
١٩٨٠ – ١٩٨٦
بولندا أولُّ محطّةٍ لهجرتي خارج العراق صورتُها مطبوعة في ارشيف الذاكرة منذُ أربعة عقود خلتْ ، الدولة الجميلة التي تشعّ بالحداثة والتكنولوجيا ولا أعتقد أنّ أحدًا درسَ فيها او زارها لمْ يحنُّ اليها ففيها الجمال المادي الذي يفوقُ على الجمال المعنوي وفيها من المُدن التي تتغّنى بتاريخها الفني العريق وتتفاخر بحداثة طرازها العمراني الساحر الممزوج برائحة الملوك فالعاصمة وارشو تَغنّى بها الأدباء و الشعراء لأنها ولدت من رماد الحرب العالمية الثانية … عندما تتجول فيها سترى قصر الثقافة والعلوم أعلى مبانيها إذ يصل ارتفاعه إلى 231 متر صمّمهُ المهندس المعماري الروسي ليف رودنيف كهديّة من الشعب السوفيتي إلى الشعب البولندي، واستمرت عملية بناءه حوالي ثلاث سنوات من 1952 إلى 1955م ويُستخدم في الوقت الحالي مقراً لأكاديمية العلوم البولندية ومركزاً للمعارض وفيه دور سينما ومسارح ومتاحف ومكتبات وغيرها ، وعندما تُعرّج على البلدة القديمة التي تعتبر من الوجهات السياحية الجذابة تجدها مزدحمة بالناس للتسّوق والاستمتاع بالحياة الهادئة والطبيعة الخلابة خصوصا في فصل الصيف تزدهرُ فيها العروض الفنيّة بأشكالها المختلفة.. صممّتُ على ترك العراق الكئيب المظلوم لما شاهدت من اوضاع حرجة يعيشها العلماء والخطباء بشكل خاص والناس بشكل عام من قبل النظام الدكتاتوري الذي ازدهرت في عصره كثرة السجون والمعتقلات والإعدامات وملاحقة الأبرياء بمختلف التُهم والذرائع فغادرتُ النجف الأشرف بتاريخ ١٩٨٠/٨/٢٨ بعد صلاة الفجر قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بثلاثة اسابيع تقريبًا متوجهًّا الى مطار بغداد بصحبة صاحب التكسي الاخ جاسم الذي كان ملازمًا لخدمة العلماء والخطباء وقبل هذا التاريخ بيوم واحد كنت في زيارة الفقيه الراحل آية الله السيد علاء الدين بحر العلوم حيثُ جئتُ مُسلمًّا ومودعّا لسماحته وقد أفاض عليّ بوصاياه الفذّة أهمّها الحفاظ على الصلاة والاهتمام بها وقد أعطاني بوصلة لتحديد القبلة لازلت مُحتفظًا بها إلى اليوم ، وصلتُ الى مطار بغداد الدولي وقدمّتُ جواز سفري لضابط الجوازات الذي كان يرتدي ملابس عسكرية راح يُدقّقُ تارةً في جوازي وتارةً ينظرُ في وجهي وتارةً يفتحُ كتاب سميك جدًا ليبحث عن إسمي لعلّي من الممنوعين من السفر ولا لومَ عليه لانّهُ يقومُ بعمله إلى ان ختم جواز سفري فأحسستُ أنّي دخلتُ مرحلة جديدة من حياتي ولابدّ ان تكون هناك مسؤولية كبيرة اختارها الله لنا لهذه الهجرة فدخلتُ إلى قاعة انتظار المسافرين لإقلاع الطائرة وكانت في القاعة أسواق حُرّة وتلفونات عموميّة اتصّلتُ بسيّدي الوالد رحمهُ الله وطمأنتهُ على خروجي من محطة الجوازات كما اتصلتُّ بعمنّا الكريم الجليل الاستاذ ضياء السهلاني وأعلمتهُ بأني في قاعة الانتظار بأنتظار الطائرة العراقية إلى وارشو ، تأخرّت الطائرة عدّة ساعات لانشغال ادارة المطار بقدوم الرئيس اليمني في ذلك اليوم إلى بغداد حتى أقلعتْ عصرًا إلى مطار إسطنبول وتوقفّنا لثلاث ساعات في إسطنبول كانت الطائرة مزدحمة ، لا اقول مزدحمة بالمسافرين بل مزدحمة بالفاريّن من العراق ونظامه الدكتاتوري ثمّ أقلعت الطائرة من إسطنبول إلى بولندا فوصلنا منتصف الليل بتوقيت العاصمة وارشو – واعتقد كانت طائرتنا الطائرة الأخيرة التي استقبلها المطار ليلًا ونزلنا من الطائرة وتوزعّنا على مواقع ختم الجوازات وما ان ختم ضابط جوازات المطار في العاصمة وارشو جواز سفري مبتسمًا ومُرحبًّا بالدخول – شعرتُ بالحُريّة والأمان لانّي وصلتُ إلى دار هجرتي الاولى وانا ابنُ التاسعة عشر من عُمري وقد نجوتُ من نظام البعث الحاكم الذي أغرق البلاد والعباد في حمامات دماءٍ على طريقة القرون الوسطى ومتوقّع على يديه ان يكون مستقبل العراق القادم أسوء وأسوءْ بعد ان أطبق أنيابه واغرز مخالبه في جسد الوطن وكنتُ أرى هذه الفرحة على وجوه العديد من الاخوة العراقيين القادمين أيضًا ، لا أدري هل كانوا يحملون نفس المشاعر التي أحملها ام كانت فرحتهُم بالوصول فقط !! نعم وصلتُ بولندا عند منتصف الليل وفي الطائرة تعرفّت على ثلاث من الاخوة العراقين القادمين للدراسة في بولندا احدهم اسمهُ مُحمّد الشمّري من النجف الأشرف واثنان طلبة دكتوراه من بغداد احدهم دكتور علاء السالمي والآخر دكتور فارس حيث أخذنا تكسي إلى احد الفنادق وجاء بنا صاحب التكسي إلى فندق خارج العاصمة عّدة كيلومترات لازدحام الفنادق داخل العاصمة وفي اليوم الثاني صباحًا غادرنا الفندق أنا والأخ الشمرّي الى مدينة ووچ (Łódź) مدينة تواجد الجاليات العربية ومعهد اللغة وتبعد ساعتين بالقطار عن العاصمة وارشو وتكتب باللغة البولندية Łódź أخذنا تكسي إلى محطة قطارات وارشو الرئيسية وتُسمّى (Warszawa Centralna) وانا في التكسي اتمعنّ في وارشو الجميلة فتارةً انظر إلى القاطرات الحمراء المرتبّة لنقل الركّاب التي تسمى tramway وتارةً انظر إلى المباني ذات التصميم المعماري الرائع ومررنا عل حديقة جميلة عرفتُ اسمها فيما بعد (بول موكوتوفسكي) حتى لاح لنا فندق الفوروم الشهير في قلب العاصمة المكّون على ما اتذّكر من ٣٥ طابق واسمهُ اليوم نوفوتيل!! هل هذه حقًّا بولندا التي دمرتّها وأحرقتها الحرب العالمية الثانية قبل أربعين سنة؟ هل فعلًا استيقظت من أتعابها وبنَت لنفسها ولأجيالها مجدًا عظيمًا رائعا يتزاحم الناس على زيارتها؟ نعم إنها بولندا وعاصمتها التي لها اسماء متعدده (وارسو وارشو فارشافا فرصوفيا) نعم إنّها فرصوفيا التي قال عنها الشاعر الجواهري:
فرصوفيا: يـا نجمـةً تَـلالا تُـغـازلُ السُـهـوبَ والتّـلالا
شاهدتُ في محطة القطار شاشة كبيرة توضّح أوقات حركة القطارات داخل بولندا و بعض المدن الأوروبية (نحن في أوروبا الان) حياة مُختلفة ونظام مُختلف وبشر يحمل طباع اخرى لا نعرفُ لغة البلد ولا نعرفُ كيف نُحيّي الناس إلا من خلال الابتسامة ، كلُّ مَن ينظر الينا يعرف إنّنا غُرباء من دول العالم الثالث من منظرنا ومظهرنا حتى جاء قطار مدينة ووچ ولم يتوقّف في المحطة إلا لحظات وصعدنا في اول رحلة لنا داخل بولندا وكان القطار مزدحمًا فوضعنا حقائبنا ورحنا ننظر من خلال الشبابيك إلى تلك المناظر الجميلة والمزارع الخضراء الواسعة التي يجتازها القطار ، إنّها صنائع الله وإبداعاته مناظر تُريحُ النفس كأنّها لوحات فنيّة تعيد للإنسان سكينته وطمأنينتُه وفي أثناء الرحلة توقفّ القطار ساعتين لا ندري لماذا؟ هل حدث عطل معّين للقطار لا سيمّا والناس جلوس لا يتحركّون ، كُتبهُم في أيديهِم يقرأون بتلهّف وخشوع وكلُ واحد مشغول بنفسه و بعد ان وصلنا مدينة ووچ (Łódź) علمنا انّ وقوف القطار كان أمرًا مقصودا وهو (إضراب العمّال عن العمل لمدة ساعتين) تضامنًا مع الطبقة العاملة في حركة التضامن التي كانت بداياتها تلتهب في بولندا , وصلنا ظهرًا إلى وودچ وكان اسم محطة القطار (ووچ فابرچنا)