طموحات أوردغانية على طريقة السلطنة العثمانية
أعاد النظام السياسي التركي الحاكم بقيادة أوردغان , عقلية الهيمنة العثمانية على مناطق نفوذها السابقة , والتي تفككت عام 1922م بعد سقوط نظامها القرووسطي العثماني على يد مجموعة من الضباط الأتراك بقيادة كمال أتاورك , وقد حجمت معاهدة لوزان عام 1923م أراضي السلطنة العثمانية الى الخريطة الحالية , والتي ألغت كل أمتيازاتها , وفرضت عدم متطالبة تركيا بأملاكها السابقة .
أردوغان تَتلمذ في تكايا السلطنة العثمانية , وزوايا الدروشة والطرق الصوفية في مدينة أسطنبول , وتربى على مبادئها , وتخلق بأخلاقها , فبزغ في ذهنه حلم أعادة أمجاد سلطنة آباءه وأجداده العثمانيين , وأخذ بمبدأ أقصاء المعارضين السياسيين من حزبه , وأنفرد بالحكم ,بعد أن حوله الى حكم رئاسي , مما يتيح له فرصة الأمساك بزمام الأمور , وهي طريقة سار عليها أجداده العثمانيين , الذين عُرفوا بالقسوة بأزاحة كل من يقف بطريق سلطانهم , وقد قتل السلاطين الأتراك الأخوان وحتى الأبناء من اجل الأنفراد بالسلطة وأزالة المنافس , ويبدو أوردغان يسير على منوالهم , حيث أخذ يبحث أزاء ذلك عن ذرائع ومبررات تتيح له النفوذ الى أراضي دول مجاورة سبق وأن أستولى عليها أجداده الأتراك , فعمل على تعزيز سلطانه بالداخل سياسياً , ودَعمَ الأقتصاد التركي بشكل جيد , وبنى جيشاً يُحسب له ألف حساب , متحيناً الفرص لتوسعت النفوذ التركي خارج الحدود التركية , مبتدأ ذلك بما حدث في ليبيا من فوضى , وأقامت أتفاقيتين عسكرية وأمنية مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية , وقد توسع الأمر الى أقامة أستثمارات في المناطق البحرية المتعلقة بالنفط والغاز , وبذلك أرجعت تركيا نفوذها القديم الى ليبيا وأن كان بصيغة مختلفة عن السابق , فبالأول كان عسكرياً , أما الآن فهو أقتصادي , ولم تقف عند هذا الحد , فهي صاحبة أطماع في العراق وسوريا أيضاً بأعتبارهما كانا جزءاً من الأمبراطورية العثمانية , مستغلاً حجة وجود معارضة كردية مسلحة , تطالب بالأستقلال , متمثلة بمنظمة البككه الكردية , والتي تتخذ من الأراضي العراقية والسورية قاعدة أنطلاق لها نحو الأراضي التركية في تنفيذ عملياتها العسكرية ,وهذا يعطي مبرر كافي له بحجة القضاء على منظمة تصفها تركيا بالأرهابية , تقوم بعمليات داخل الأراضي التركية , وهذا وفر لتركيا سبب كافي للدخول للأراضي العراقية بسبب ماحدث من حالة الفوضى أثر الأحتلال الأمريكي للعراق , وما قام به داعش من أحتلال للأراضي العراقية بمساعدة وتحريض تركي , لكي تُزيد من مبررات وجودها على الأراضي العراقية , وفرصة ذهبية لها بقضم المزيد من الأراضي العراقية التي لا تخفي طموحها التاريخي بالسيطرة عليها , تحت ذريعة تأمين الحدود التركية من البككه , والتي عجزت الحكومة العراقية عن حمايتها على حد زعم النظام التركي , وتركيا لا تخفي رغبتها بالأستيلاء على آبار النفط في الموصل وكركوك , وهي مادة أستراتيجية تفتقدها تركيا في أراضيها , والضرورية لصناعتها الناهضة . من ناحية أخرى قامت تركيا بنفس السيناريو الذي أخرجته في العراق , وبحجة وجود قواعد للبككه الكردية على الأراضي السورية, والتي أصبحت ملاذ آمن , ونقطة أنطلاق للبككه من الأراضي السورية نحو الداخل التركي .
أنطلاقاً من هذه المبررات شنت القوات التركية في 18 ديسمبر 2007م على شمال العراق حملة عسكرية أسفرت عن أحتلال لأراضية , بدعوى ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني , مما أدى الى أحتلال مساحات واسعة من محافظة دهوك , وبعمق 45 كيلومتر داخل الأرض العراقية , حيث تطور الأمر الى بناء قواعد عسكرية تركية , ولا يُخفى على المراقب اللبيب الوجود المكثف والقيادي لعناصر داعش من ذوي الأصول التركمانية أمثال أبو مسلم التركماني المولود في تلعفر , ليكون لتركيا قيادات تنفذ المخطط التركي الهادف الى أحتلال الأرض العراقية بدعوى بأنها أراضي تركية الأصل , وأن هناك سكان أصليين من أصل تركي ينبغي حمايتهم. الأمر ذاته ولنفس المبررات , ولدواعي حماية الأمن القومي التركي , وأن سوريا كانت جزء من أراضي الأمبراطورية التركية , وقد أحتلها السلطان سليم الأول , والذي أقام ضريح لجد العثمانيين (سليمان شاه) في حلب الذي كان هارباً من أجتياح المغول للأراضي التركية عام 1231م , فدفن قرب منحدرات قلعة جعبر الغربية التابعة لحلب , فقد ساهم الجيش التركي مساهمة عسكرية كبيرة لقوات المعارضة السورية بكل أشكالها من أجل السيطرة على حلب , والتي تعتبرها أرض تركية , وهذا ما رأيناه أخيراً عند دخول قوات الجولاني لحلب حيث رُفع العلم التركي على قلعتها القديمة . هذه الأحلام التركية هي من تفسر مساعدة تركيا للمجاميع الأرهابية في العراق وسوريا , ولكن لولا الحشد الشعبي والجيش العراقي , ومساعدة إيران لأستولت تركيا على أراضي واسعة من العراق , ولبسطت سيطرتها خاصة على الموصل وكركوك المدينة النفطية والأستراتيجية , والأمر نفسه في سوريا , لولا مساعدة إيران ورسيا وحزب الله اللبناني للجيش السوري لأجتاحت داعش والفصائل الأخرى المعارضة كل الأراضي السورية ولأسقطت دمشق آنذاك , ولكن بعد أنشغال حزب الله اللبناني بمعارك مع إسرائيل , وأنشغال روسيا بالحرب مع أوكرانيا , فقد سنحت الفرصة لتركيا للقيام بالهجوم المفاجيء على حلب بأداة تركيا في سوريا أبو محمد الجولاني الذي يرأس ما يُسمى بهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) , وقد كان الجيش السوري بأضعف حالاته , مما جعل حلب وحماة وحمص تسقط بسرعة كبيرة , وبطريقة دراماتيكية , تكشف عن خواء هذا الجيش الذي أنهكته الحرب الأهلية , وما تركته الحالة الأقتصادية السيئة على ضعف تجهيزاته , ومعنويات أفراده , وكثرة القصف الجوي لقواعده العسكرية من قِبل الطيران الإسرائيلي , كل هذا جعل المدن السورية تتساقط بسرعة مذهله , حتى مدينة دمشق سقطت قبل أن تصل أليها قوات المعارضة السورية .
أن سقوط دمشق لم يجعل النظام التركي يعيش حالة الأنتصار بكامل فرحته , ولم يقر له قرار , إلا بعد أن يستولي الجولاني على شمال شرق سوريا , وهي الأراضي التي تستولي عليها قسد الكردية , وملاذ حزب العمال الكردستاني التركي , وقد بدأت المعركة الأولى بين جماعة الجولاني وقسد في مدينة منبج , وستشهد الأيام المقبلة معارك أخرى يكون للأتراك مساهمة كبيرة فيها , وهذا ما حذر منه الرئيس الأمريكي المقبل ترامب , حكومة أردوغان من مغبة ضرب منظمة قسد الكردية التي هي تحت الرعاية الأمريكية , والحامية لوجودها , والراعية لأهدافها بأقامة أقليم كردي على شمال شرق سوريا الغنية بالبترول . لاشك أن تركيا قد دخلت النفق السوري , وستتبنى بعض الفصائل المعارضة والتي منها الفصيل الأكبر بقيادة الجولاني , في مقابل فصائل وقوى متوزعة الولاءات , ولا أستبعد أن تكون هناك صراعات بين الأطراف السورية التي يقف وراء كل منها دولة , وستدخل تركيا في خضم صراع طويل لا تقوى على تحمله أزاء أقتصاد تركي يعاني من الضعف , وستكون في موقف سياسي لا تُحسد عليه , خصام مع أمريكا بسبب قسد , وعدم ود مع روسيا وإيران بسبب خرقها لأتفاق أستانا , والذي لاشك له تداعياته على الحكومة التركية , وربما تقود الأزمة في سوريا الى الأطاحة بأوردغان , الذي حُمّل تركيا من العبء مما لا تحتمله , وخاصة في الجانب المالي والأقتصادي , والعسكري.
أياد الزهيري